كلما تعرفت عليه اكثر كلما احبته اكثر
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
كلما تعرفت عليه اكثر كلما احبته اكثر
كلما تعرفت عليه اكثر كلما احبته اكثر
كلما تعرفت عليه اكثر كلما احبته اكثر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد؛
فيقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب:56), وهذه الصلاة, وذلكم السلام المأمور بهما في تلك الآية النيرة كلاهما لازم من لوازم محبته --, وسب موصل إليهما.
ولاشك أن حب النبي -- مَعلَم رئيسي من معالم الدين, وعقد من عقود الإيمان, وقد أوجب الله علينا محبته, وتوعد على الإخلال بها فقال: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24), وكفى بتلك الآية حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على لزوم محبته --, وعظيم خطرها.
وما يشهد لذلك ذلكم المشهد الذي يأخذ فيه -- بيد عمر, فيقول له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي, فقال النبي --: (لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ), فكان هذا التحول العجيب من عمر حيث قال لتوه: فأنت الآن والله يا رسول الله لأحب إلي من نفسي, فقال له النبي --: (الآنَ يَا عُمَرُ) (رواه البخاري)، وفي الحديث: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (متفق عليه).
إن هذا الأمر -وهو أن تربو محبة رسول الله -- عندنا على محبتنا لذواتنا وأنفسنا- أمر ليس بالهين, بل يحتاج منا إلى استعانة عالية بالله -جلَّ وعلا-, ومؤهلات خاصة جدًا, وأسباب لزامًا علينا أن نأخذ بها, حتى نرقى هذا المرتقى العالي, ونعرج من الثرى إلى الثريا.
وأول هذه الأسباب التي تنتعش وتنشط بها محبة الحبيب -- في القلوب, وتدفع إلى نمائها:
- محبة الله -تعالى-: وذلك لأن محبة رسول الله -- فرع عن محبة الله, فكلما ازداد العبد حبًا لله ازداد حبًا لرسوله -عليه الصلاة والسلام-.
وقد ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" جملة من الأسباب الجالبة لمحبة الله: كقراءة القرآن بالتدبر, ودوام ذكره -تعالى- بالقلب والسان, ومشاهدة بره وإحسانه, ونعمه وإنعامه؛ فالإنسان أسير الإحسان, ومجالسة المحبين الصادقين, وآكد ذلك أن تعرف الله بأسمائه وأوصافه، يقول الحسن: "من عرف ربه أحبه".
- وما تمتلئ به القلوب, وتفعم محبة لرسول الله -- معرفة شرفه, وما خصه الله به, كونه سيد ولد آدم, وأنه صاحب المقام المحمود, والشفاعة العظمى, وأول شافع, وأول مشفع, وأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فما ازداد بذلك إلا ذلاً لله وانكسارًا, وسعيًا في مرضاته فضلاً عن قَسَم الله بحياته, فضلاً عن توقير الله له حيث ناداه بأحب أسمائه, وأسمى أوصافه فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ), بينما نادى غيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بأسمائهم؛ فجدير بمن تبوأ تلك المنزلة العالية عند الله أن تتوجه القلوب لمحبته, وتشرف لنصرته.
- ومن الأسباب التي تمتلئ بها القلوب محبة لرسول الله كذلك دراسة شمائله, والوقوف على مكارم الأخلاق التي بعث بها، وتجمعت بجماعها في شخصه --, فكان أوسع الناس صدرًا, وأصدقهم لهجة, وأكرمهم عشيرة, وأوفاهم عهدًا وأوصلهم للرحم.
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبريقول عبد الله بن سلام: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الَّلهِ -- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ --. فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ" (رواه الترمذي وابن ماجه، وصحه الألباني).
- ومن ذلك كذلك معرفة حرصه وشفقته علينا, ورحمته بنا، ونصحه لنا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128), وقال -جلَّ وعلا-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6), فأنفسنا تدعونا إلى الهلاك, وهو يدعونا إلى النجاة, وفي الحديث: (أنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ) (متفق عليه), فأي نبل وأي سخاوة نفس هذه؟!
وما تتلأ به القلوب محبة لرسول الله مطالعة ومشاهدة الثمرات اليانعات التي يجتنيها محبو الحبيب --, وأول ذلك الظفر بحلاوة ونداوة الإيمان, والتي تثمر التلذ بالطاعات, واستعذاب المشاق والصعاب في سبيل الله، يقول --: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ الَّلهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) (متفق عليه).
من ثمرات المحبة تلك البشرى التي زفها رسول الله -- لمحبيه، وذلك يوم أن جاءه رجل, فَقَالَ: يَا رَسُولَ الّلَهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ) قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ --: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ). قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, وَأَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ, وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. (متفق عليه), ونقول نحن: إنا لنرجو أن نكون صادقين في محبتنا لله ولرسوله ولصحابة أجمعين, فنلحق بهم, وإن لم نعمل كأعمالهم.
وما لا يختلف عليه اثنان, ولا يتناطح فيه عنزان أن المحب لمن يحب مطيع, ولذلك لما صَدَق الناس كبارًا وصغارًا في محبتهم للاعبي المنتخب جعلوا يزحفون خلفهم قدر جهدهم, فإن أعياهم ذلك, وبعدت عليهم الشقة, وفاتهم الوصول إلى ملاعب المباريات لمتابعة فعاليات الدورة الكروية جعلوا يرقبون -وعن كثب- حركاتهم وسكناتهم, وماذا يأكل الاعبون؟ وكيف يشربون؟ ومتى ينامون؟ وتفاصيل التفاصيل, ويتابعون أولاً بأول وبنهم شديد أخبارهم, ثم يتفانون في تقليدهم ومحاكاتهم -ونحن كذلك مهما صدقت محبتنا لمحمد -- تابعناه, وتلمسنا خطاه التي سلكها على طريق الإيمان خطوة خطوة بداية من لا إله إلا الله, ومرورًا بالحياء, وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق-, فبذلك وبذلك فقط نبرهن, وندل على صدق محبتنا, وإلا فما هي إلا مجرد دعوى تفتقر إلى بينة, وقد ادعى قوم محبة الله, فابتلاهم الله بهذه الآية: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31).
ومهما بحت أصواتنا بإعلان محبته --, وأظهرنا التألم والتأسف على فوات رؤيته وصحبته, وتناثر وتكاثر منا معسول الكلام في التعبير عن عظيم مودته, فما هي إلا دعاوي كاذبة لمحبة زائفة, حتى نترجم تلك المحبة إلى اتباع السنة, ونحن الآن كلنا على المحك, وعلى قدر نصرتنا اليوم لدين الله, ولسنة رسوله, وذبنا عن ذلك على قدر نصرتنا لرسول الله, وذبنا عنه لو أدركناه حال حياته -- سواء بسواء.
وقد ألزم الله علينا طاعته, وحذر من مغبة عصيانه؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الَّلهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال:20), وقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
ولقد كان للصحابة ولصحابيات الأيادي البيضاء في امتثال أمره, ومن ذلك أن رسول الله لما نمى إلى سمعه أنه قد اختلط الرجال بالنساء في الطريق؛ قال للنساء: (اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ) فجعلت تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
وما أحوجنا في هذا الزمن الذي جفت فيه شجرة المحبة, وتيبست أوراقها إلى غيث وابل يذهب الظمأ, وتبتل به العروق, وهذا الغيث يأتينا من خلال هذا البث الحي المباشر الذي يجسد محبة الأحبة -رضي الله عنهم- للحبي --, وكيف أنهم لما كانوا أعمق الأمة إيمانًا كان لهم من محبته أوفر الحظ, حتى فدوه بآبائهم وأبنائهم وأنفسهم, وقاتلوا دونه, وذبوا عن شريعته, وبذلوا في سبيل ذلك المهج والأرواح, حتى رفرف عَلَم التوحيد على ربوع العالمين, فإلى هذا البث عساه أن يشحذ منا الهم, فنتأسى بهم في حبهم لحبيبهم, وذبهم عن دينهم.
وباكورة ذلك لأبي بكر ذلكم الرجل العظيم الذي لما اكتملت وتمكنت محبة رسول الله من قلبه؛ أت بالأعاجيب؛ تقول عائشة -رضي الله عنها-: "لما علم أبو بكر بأنه سيكون رفيق الهجرة بكى, وما كنت أعلم أن أحدًا يبكي من الفرح, حتى رأيت أبا بكر باكيًا يومئذ".
ولما دنا منهما سراقة جاءت عيناه بالدمع, فسأله رسول الله عن بكائه فقال: "والله ما أبكي على نفسي, وإنما أبكي عليك".
ولما خطبهم رسول الله قائلاً: (إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ الَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) (رواه البخاري), بكى الأسيف قائلاً: نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا, فتعجب الصحابة لبكائه. إن رسول الله يخبر عن عبد خيره الله, فما بال أبي بكر يبكي, فما لبثوا أن علموا أن رسول الله -- كان هو المخيَّر, وهو المخبر عن نفسه, ولم يعقلها يومئذ إلا أبو بكر -رضي الله عنه-.
أما عمر فقد ظل على العهد حتى إذا كان قبيل وفاته كان أهم ما يهمه هو أن يدفن بجوار حبيبه --, ولذلك قال لابنه عبد الله: "انطلق إلى عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام, ولا تقل أمير المؤمنين, فإني لست اليوم للمؤني أمير, وقل: يستأذن عمر أن يدفن بجوار صاحبيه, فلما فعل قالت عائشة: كنت أريده لنفسي, ولأوثرنه به اليوم على نفسي, فلما أقبل عبد الله قال له عمر: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين. أذنت. قال: الحمد لله. ما كان من شيء أهم إلي من ذلك", وهكذا تفعل المحبة بأهلها.
أما ربيعة بن كعب الأسلمي, فقد أتيحت له فرصة العمر يوم أن قال له رسول الله --: (سَلْ)؟ فقال دون تردد ولا تفكير: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: (أوَ غَيْرَ ذَلِكَ)؟ قُالْ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) (رواه مسلم).
ورابع بلغ فرط محبته للحبي أن قال: يا رسول الله إنك لأحب إلى من نفسي, وإنك لأحب إلي من ولدي, وإني لأكون في البيت فأذكرك, فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك, وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبين, وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك, فلم يرد عليه النبي -- حتى نزل جبريل بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69).
وسعد بن الربيع بعث رسول الله زيدًا في طلبه يوم أحد وقال له: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ فأدركه زيد في آخر رمق وبه سبعون ما بين ضربة ورمية وطعنة, فقال: يا سعد إن رسول الله يقرؤك السلام, ويقول لك: كيف تجدك؟ فقال سعد على رسول الله, وعليك السلام قل له: أجدني أجد ريح الجنة, وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله, وفيكم عين تطرف, ثم فاضت نفسه -رضي الله عنه-, فأي محبة هذه التي اعتملت في قلوب القوم, حتى فجَّرت تلك العواطف الجياشة, وأثارت تلك المواقف الفريدة التي يعز أن تجد لها نظيرًا -اللهم إلا في عصر الصحابة عصر التألق الإيماني-.
وهذا مشهد إيماني آخر ينم عن مدى تدفق مشاعر الحب لرسول الله في قلوب الأنصار-رضي الله عنهم-، إذ لما قسَّم رسول الله -- الغنائم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، ولم يعط الأنصار شيئًا فكأن بعضهم وجد في نفسه فبلغ ذلك رسول الله -- فجمعهم ثم حمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ, وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)؟ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ: (أَلاَ تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ)؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ الَّلهِ, وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟! قَالَ: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ, وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ, أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُم يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا, وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلاَمِكُمْ, أَفَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ, وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءاً مِنَ الأَنْصَارِ, وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ, الَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ, وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ, وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ) قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ, وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ الّلَهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -- وَتَفَرَّقُوا. (رواه أحمد، وصحه الألباني).
بعد تلك المحاضرة الماتعة في فن التعامل مع النفوس, واستجلاب العبرات, واستثارة مشاعر الحب, وإيقاظ فلول المودة الكامنة.
اللهم صلِ على محمد ما مر النسيم على الأزهار, وصل على محمد ما هطلت الأمطار, وصل على محمد ما تعاقب اليل والنهار, وصل على محمد ما فاحت الأشجار بالأزهار والأنوار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد؛
فيقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب:56), وهذه الصلاة, وذلكم السلام المأمور بهما في تلك الآية النيرة كلاهما لازم من لوازم محبته --, وسب موصل إليهما.
ولاشك أن حب النبي -- مَعلَم رئيسي من معالم الدين, وعقد من عقود الإيمان, وقد أوجب الله علينا محبته, وتوعد على الإخلال بها فقال: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24), وكفى بتلك الآية حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على لزوم محبته --, وعظيم خطرها.
وما يشهد لذلك ذلكم المشهد الذي يأخذ فيه -- بيد عمر, فيقول له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي, فقال النبي --: (لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ), فكان هذا التحول العجيب من عمر حيث قال لتوه: فأنت الآن والله يا رسول الله لأحب إلي من نفسي, فقال له النبي --: (الآنَ يَا عُمَرُ) (رواه البخاري)، وفي الحديث: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (متفق عليه).
إن هذا الأمر -وهو أن تربو محبة رسول الله -- عندنا على محبتنا لذواتنا وأنفسنا- أمر ليس بالهين, بل يحتاج منا إلى استعانة عالية بالله -جلَّ وعلا-, ومؤهلات خاصة جدًا, وأسباب لزامًا علينا أن نأخذ بها, حتى نرقى هذا المرتقى العالي, ونعرج من الثرى إلى الثريا.
وأول هذه الأسباب التي تنتعش وتنشط بها محبة الحبيب -- في القلوب, وتدفع إلى نمائها:
- محبة الله -تعالى-: وذلك لأن محبة رسول الله -- فرع عن محبة الله, فكلما ازداد العبد حبًا لله ازداد حبًا لرسوله -عليه الصلاة والسلام-.
وقد ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" جملة من الأسباب الجالبة لمحبة الله: كقراءة القرآن بالتدبر, ودوام ذكره -تعالى- بالقلب والسان, ومشاهدة بره وإحسانه, ونعمه وإنعامه؛ فالإنسان أسير الإحسان, ومجالسة المحبين الصادقين, وآكد ذلك أن تعرف الله بأسمائه وأوصافه، يقول الحسن: "من عرف ربه أحبه".
- وما تمتلئ به القلوب, وتفعم محبة لرسول الله -- معرفة شرفه, وما خصه الله به, كونه سيد ولد آدم, وأنه صاحب المقام المحمود, والشفاعة العظمى, وأول شافع, وأول مشفع, وأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فما ازداد بذلك إلا ذلاً لله وانكسارًا, وسعيًا في مرضاته فضلاً عن قَسَم الله بحياته, فضلاً عن توقير الله له حيث ناداه بأحب أسمائه, وأسمى أوصافه فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ), بينما نادى غيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بأسمائهم؛ فجدير بمن تبوأ تلك المنزلة العالية عند الله أن تتوجه القلوب لمحبته, وتشرف لنصرته.
- ومن الأسباب التي تمتلئ بها القلوب محبة لرسول الله كذلك دراسة شمائله, والوقوف على مكارم الأخلاق التي بعث بها، وتجمعت بجماعها في شخصه --, فكان أوسع الناس صدرًا, وأصدقهم لهجة, وأكرمهم عشيرة, وأوفاهم عهدًا وأوصلهم للرحم.
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبريقول عبد الله بن سلام: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الَّلهِ -- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ --. فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ" (رواه الترمذي وابن ماجه، وصحه الألباني).
- ومن ذلك كذلك معرفة حرصه وشفقته علينا, ورحمته بنا، ونصحه لنا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128), وقال -جلَّ وعلا-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6), فأنفسنا تدعونا إلى الهلاك, وهو يدعونا إلى النجاة, وفي الحديث: (أنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ) (متفق عليه), فأي نبل وأي سخاوة نفس هذه؟!
وما تتلأ به القلوب محبة لرسول الله مطالعة ومشاهدة الثمرات اليانعات التي يجتنيها محبو الحبيب --, وأول ذلك الظفر بحلاوة ونداوة الإيمان, والتي تثمر التلذ بالطاعات, واستعذاب المشاق والصعاب في سبيل الله، يقول --: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ الَّلهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) (متفق عليه).
من ثمرات المحبة تلك البشرى التي زفها رسول الله -- لمحبيه، وذلك يوم أن جاءه رجل, فَقَالَ: يَا رَسُولَ الّلَهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ) قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ --: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ). قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, وَأَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ, وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. (متفق عليه), ونقول نحن: إنا لنرجو أن نكون صادقين في محبتنا لله ولرسوله ولصحابة أجمعين, فنلحق بهم, وإن لم نعمل كأعمالهم.
وما لا يختلف عليه اثنان, ولا يتناطح فيه عنزان أن المحب لمن يحب مطيع, ولذلك لما صَدَق الناس كبارًا وصغارًا في محبتهم للاعبي المنتخب جعلوا يزحفون خلفهم قدر جهدهم, فإن أعياهم ذلك, وبعدت عليهم الشقة, وفاتهم الوصول إلى ملاعب المباريات لمتابعة فعاليات الدورة الكروية جعلوا يرقبون -وعن كثب- حركاتهم وسكناتهم, وماذا يأكل الاعبون؟ وكيف يشربون؟ ومتى ينامون؟ وتفاصيل التفاصيل, ويتابعون أولاً بأول وبنهم شديد أخبارهم, ثم يتفانون في تقليدهم ومحاكاتهم -ونحن كذلك مهما صدقت محبتنا لمحمد -- تابعناه, وتلمسنا خطاه التي سلكها على طريق الإيمان خطوة خطوة بداية من لا إله إلا الله, ومرورًا بالحياء, وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق-, فبذلك وبذلك فقط نبرهن, وندل على صدق محبتنا, وإلا فما هي إلا مجرد دعوى تفتقر إلى بينة, وقد ادعى قوم محبة الله, فابتلاهم الله بهذه الآية: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31).
ومهما بحت أصواتنا بإعلان محبته --, وأظهرنا التألم والتأسف على فوات رؤيته وصحبته, وتناثر وتكاثر منا معسول الكلام في التعبير عن عظيم مودته, فما هي إلا دعاوي كاذبة لمحبة زائفة, حتى نترجم تلك المحبة إلى اتباع السنة, ونحن الآن كلنا على المحك, وعلى قدر نصرتنا اليوم لدين الله, ولسنة رسوله, وذبنا عن ذلك على قدر نصرتنا لرسول الله, وذبنا عنه لو أدركناه حال حياته -- سواء بسواء.
وقد ألزم الله علينا طاعته, وحذر من مغبة عصيانه؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الَّلهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال:20), وقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
ولقد كان للصحابة ولصحابيات الأيادي البيضاء في امتثال أمره, ومن ذلك أن رسول الله لما نمى إلى سمعه أنه قد اختلط الرجال بالنساء في الطريق؛ قال للنساء: (اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ) فجعلت تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
وما أحوجنا في هذا الزمن الذي جفت فيه شجرة المحبة, وتيبست أوراقها إلى غيث وابل يذهب الظمأ, وتبتل به العروق, وهذا الغيث يأتينا من خلال هذا البث الحي المباشر الذي يجسد محبة الأحبة -رضي الله عنهم- للحبي --, وكيف أنهم لما كانوا أعمق الأمة إيمانًا كان لهم من محبته أوفر الحظ, حتى فدوه بآبائهم وأبنائهم وأنفسهم, وقاتلوا دونه, وذبوا عن شريعته, وبذلوا في سبيل ذلك المهج والأرواح, حتى رفرف عَلَم التوحيد على ربوع العالمين, فإلى هذا البث عساه أن يشحذ منا الهم, فنتأسى بهم في حبهم لحبيبهم, وذبهم عن دينهم.
وباكورة ذلك لأبي بكر ذلكم الرجل العظيم الذي لما اكتملت وتمكنت محبة رسول الله من قلبه؛ أت بالأعاجيب؛ تقول عائشة -رضي الله عنها-: "لما علم أبو بكر بأنه سيكون رفيق الهجرة بكى, وما كنت أعلم أن أحدًا يبكي من الفرح, حتى رأيت أبا بكر باكيًا يومئذ".
ولما دنا منهما سراقة جاءت عيناه بالدمع, فسأله رسول الله عن بكائه فقال: "والله ما أبكي على نفسي, وإنما أبكي عليك".
ولما خطبهم رسول الله قائلاً: (إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ الَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) (رواه البخاري), بكى الأسيف قائلاً: نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا, فتعجب الصحابة لبكائه. إن رسول الله يخبر عن عبد خيره الله, فما بال أبي بكر يبكي, فما لبثوا أن علموا أن رسول الله -- كان هو المخيَّر, وهو المخبر عن نفسه, ولم يعقلها يومئذ إلا أبو بكر -رضي الله عنه-.
أما عمر فقد ظل على العهد حتى إذا كان قبيل وفاته كان أهم ما يهمه هو أن يدفن بجوار حبيبه --, ولذلك قال لابنه عبد الله: "انطلق إلى عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام, ولا تقل أمير المؤمنين, فإني لست اليوم للمؤني أمير, وقل: يستأذن عمر أن يدفن بجوار صاحبيه, فلما فعل قالت عائشة: كنت أريده لنفسي, ولأوثرنه به اليوم على نفسي, فلما أقبل عبد الله قال له عمر: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين. أذنت. قال: الحمد لله. ما كان من شيء أهم إلي من ذلك", وهكذا تفعل المحبة بأهلها.
أما ربيعة بن كعب الأسلمي, فقد أتيحت له فرصة العمر يوم أن قال له رسول الله --: (سَلْ)؟ فقال دون تردد ولا تفكير: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: (أوَ غَيْرَ ذَلِكَ)؟ قُالْ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) (رواه مسلم).
ورابع بلغ فرط محبته للحبي أن قال: يا رسول الله إنك لأحب إلى من نفسي, وإنك لأحب إلي من ولدي, وإني لأكون في البيت فأذكرك, فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك, وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبين, وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك, فلم يرد عليه النبي -- حتى نزل جبريل بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69).
وسعد بن الربيع بعث رسول الله زيدًا في طلبه يوم أحد وقال له: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ فأدركه زيد في آخر رمق وبه سبعون ما بين ضربة ورمية وطعنة, فقال: يا سعد إن رسول الله يقرؤك السلام, ويقول لك: كيف تجدك؟ فقال سعد على رسول الله, وعليك السلام قل له: أجدني أجد ريح الجنة, وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله, وفيكم عين تطرف, ثم فاضت نفسه -رضي الله عنه-, فأي محبة هذه التي اعتملت في قلوب القوم, حتى فجَّرت تلك العواطف الجياشة, وأثارت تلك المواقف الفريدة التي يعز أن تجد لها نظيرًا -اللهم إلا في عصر الصحابة عصر التألق الإيماني-.
وهذا مشهد إيماني آخر ينم عن مدى تدفق مشاعر الحب لرسول الله في قلوب الأنصار-رضي الله عنهم-، إذ لما قسَّم رسول الله -- الغنائم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، ولم يعط الأنصار شيئًا فكأن بعضهم وجد في نفسه فبلغ ذلك رسول الله -- فجمعهم ثم حمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ, وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)؟ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ: (أَلاَ تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ)؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ الَّلهِ, وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟! قَالَ: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ, وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ, أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُم يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا, وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلاَمِكُمْ, أَفَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ, وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءاً مِنَ الأَنْصَارِ, وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ, الَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ, وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ, وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ) قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ, وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ الّلَهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -- وَتَفَرَّقُوا. (رواه أحمد، وصحه الألباني).
بعد تلك المحاضرة الماتعة في فن التعامل مع النفوس, واستجلاب العبرات, واستثارة مشاعر الحب, وإيقاظ فلول المودة الكامنة.
اللهم صلِ على محمد ما مر النسيم على الأزهار, وصل على محمد ما هطلت الأمطار, وصل على محمد ما تعاقب اليل والنهار, وصل على محمد ما فاحت الأشجار بالأزهار والأنوار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ريم الحق- مشرفة نور جعلان لتفسير الأحلام
- الجنس :
عدد المساهمات : 91
نقاط : 14071
تاريخ التسجيل : 23/03/2012
الموقع : اللهم ارزقني العيش بالفردوس
رد: كلما تعرفت عليه اكثر كلما احبته اكثر
بارك الله فيك
روح_بوظبي- حاصل على وسام التميز
- الجنس :
عدد المساهمات : 1405
نقاط : 15373
تاريخ التسجيل : 24/03/2012
الموقع : ابوظبي
رد: كلما تعرفت عليه اكثر كلما احبته اكثر
بارك الله فيك
الغروب الحزين- إدارية
- الجنس :
عدد المساهمات : 1675
نقاط : 16083
تاريخ التسجيل : 05/02/2012
الموقع : دار(نزوى)البوسعيد
- :
رد: كلما تعرفت عليه اكثر كلما احبته اكثر
شكرا على الطرح المميز
كاتم الأحزان- نور ماسي
- الجنس :
عدد المساهمات : 450
نقاط : 14552
تاريخ التسجيل : 23/03/2012
- :
مواضيع مماثلة
» كلما تقدمنا في السن
» من اكثر الامور تقييدا للسعادة
» اهمية مراعاة شعور الناس وحث الاسلام عليه
» ادخل وتعرف اكثر على منتدى نور جعلان
» قصة سيدنا أيوب عليه السلام
» من اكثر الامور تقييدا للسعادة
» اهمية مراعاة شعور الناس وحث الاسلام عليه
» ادخل وتعرف اكثر على منتدى نور جعلان
» قصة سيدنا أيوب عليه السلام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 23 أكتوبر 2022, 1:15 am من طرف صمت الكلام
» هام لزوار المنتدى
الأحد 23 أكتوبر 2022, 12:28 am من طرف نور جعلان
» كلما تقدمنا في السن
الأحد 06 ديسمبر 2015, 2:04 am من طرف نور جعلان
» كلمات في الصميم
الأحد 19 أبريل 2015, 11:54 pm من طرف نور جعلان
» معلومات معلومات
الأحد 19 أبريل 2015, 11:36 pm من طرف نور جعلان
» دورة المتغيرات العالمية وأثرها فى إدارة وتنمية الموارد البشرية - فضاء قطر للتدريب
الأربعاء 04 مارس 2015, 4:44 pm من طرف كريم الجبالي
» دورة العلاقات الخارجية والتعاون الدولي - فضاء قطر للتدريب و التطوير
الأربعاء 04 مارس 2015, 4:43 pm من طرف كريم الجبالي
» شركة النيل
الثلاثاء 03 مارس 2015, 3:57 pm من طرف الاء نايل
» دورة تنــظـــيم وإدارة ومــــراقــــبة المســـــتودعـــــات
الإثنين 02 مارس 2015, 4:01 pm من طرف كريم الجبالي